"*" indicates required fields

اشترك

This field is for validation purposes and should be left unchanged.

عند الاشتراك، فإنك توافق على سياسة الخصوصية المعتمدة لدينا.

Subscription Settings
التحليلات

حرب إبادة في غزة

في غزة، هناك حرب إبادة تشنها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، ومع انها حرب ابادة جماعية، إلا أن كل فلسطيني يموت بمفرده، وهو يراقب العالم يراقب مأساته بصمت وعجز، وإن تمتم بين وقت وآخر "أبداً مرة اخرى" دون أن يعنيها.

هشام ملحم

7 دقائق قراءة

يتفقد فلسطينيون الدمار في موقع استهدفته ضربة إسرائيلية في دير البلح بقطاع غزة، 8 أبريل 2025. (صورة من أسوشييتد برس/عبد الكريم حنا)

بعد أسابيع وأشهر من الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، عقب هجوم حماس في السابع من أكتوبر2023، بدأ المراقبون يصفون التدمير المنظم للبنى التحتية المدنية، والحصار الجوي والبحري والبري للقطاع والقتل المتعمد للمدنيين، مستخدمين عبارات ومفاهيم مثل “جرائم ضد الانسانية” و”القتل الجماعي” و”جرائم حرب”، ولكن معظم المراقبين لأسباب مختلفة تفادوا استخدام مفهوم “الإبادة” لوصف حقيقة ما تقوم به إسرائيل. ولكن مع بداية السنة الثانية للاجتياح، وبعد تحويل مدن وبلدات القطاع إلى أرض يباب، وزيادة عدد ضحايا الهجمات الإسرائيلية عن 61 ألف قتيل، بمن فيهم 13 ألف طفل وفقاً لليونيسيف ووزارة الصحة الفلسطينية، وفقدان أكثر من عشرة آلاف شخص يعتقد أنهم تحت الأنقاض، وبعد تفشي المجاعة في القطاع، فرض مفهوم “الإبادة” نفسه على كل مراقب محايد يريد أن يصف أبعاد هذه الكارثة الإنسانية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.

مع اقتراب الذكرى الثانية لأكتوبر 2023، يلتقي معظم منظمات حقوق الانسان في العالم، وفي إسرائيل، وفي أوساط عدد متزايد من الباحثين المختصين بحروب الإبادة والمحرقة النازية على وصف ما يحدث للفلسطينيين في غزة بأنه إبادة للشعب الفلسطيني، أو جزء منه، لمجرد أنهم ينتمون لهذا الشعب.

مفهوم الابادة في سياق النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي له دلالات تفتقر إليها بعض حروب الإبادة التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، مثل الإبادة في كمبوديا في سبعينات القرن الماضي، أو حرب الإبادة التي استهدفت البوسنة ورواندا في تسعينات القرن الماضي وغيرها.

الذين يرتكبون حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة، معظمهم من أحفاد ضحايا المحرقة النازية، التي استهدفت ملايين اليهود المدنيين في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. أيضاً حرب الإبادة ضد الفلسطينيين هي الأولى التي تجري في عالم الاتصالات الاجتماعية وشبكة الانترنت والذكاء الاصطناعي. في غزة شهد العالم تغطية حية، إلى حد كبير لإبادة المدنيين، واقتلاعهم وتجويعهم، وتدمير منازلهم ومستشفياتهم ومدارسهم، وتحويل القطاع إلى أهرامات من الركام، ولو كانت هناك شوارع في الجحيم، لكانت تبدو مثل شوارع مدن غزة ورفح وخان يونس.

في عام 1944، قام المحامي البولندي رفاييل ليمكن (Raphael Lemkin) بصياغة مفهوم الإبادة، مازجاً كلمة يونانية سابقة “genos”، تعني العرق، بكلمة لاتينية لاحقة “cide” تعني القتل، وهكذا ولد مفهوم genocide  للمرة الأولى. واستخدم ليمكن هذا المفهوم في كتابه “حكم المحور في أوروبا المحتلة” الصادر في السنة ذاتها. واستوحى ليمكن المحامي اليهودي من دراساته السابقة للمذابح الجماعية عبر التاريخ، وتحديداً مذبحة الأرمن على يد العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، ووضع تدمير التحف الثقافية الأرمنية كجزء من الإبادة، إضافة إلى خبرته الذاتية المأساوية، حين خسر 49 شخصاً من عائلته خلال المحرقة النازية. وأدت جهود ليمكن إلى اعتماد الأمم المتحدة في عام 1948 لمفهوم الإبادة حين خلقت إطاراً قانونياً لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة.

ووفقاً للبند الثاني من مؤتمر الأمم المتحدة حول الإبادة، فإن تعريف هذه الجريمة يشمل الأعمال الهادفة إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية. والهدف الأساسي في تعريف الإبادة هو نية المعتدي على تدمير جماعة محمية. وهذا يعني استهداف الضحايا الذين ينتمون إلى هذه الجماعة المحمية، إما استهداف الجماعة بالكامل أو بشكل جزئي. وهذا ما يجعل مفهوم “الإبادة” يختلف عن جرائم القتل الجماعي الأخرى التي لا تعني بالضرورة النية بتدمير الجماعة ككل.

يعتبر الباحث الإسرائيلي راز سيغال (Raz Segal)، الخبير في شؤون المحرقة النازية وحروب الإبادة، أول من استخدم مفهوم الإبادة لوصف أعمال إسرائيل العسكرية في غزة بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023. جاء ذلك في مقال نشره في مجلة “التيارات اليهودية” (Jewish Currents) بعنوان “حالة نموذجية من الإبادة”، “إسرائيل واضحة بما تقوم به في غزة. لماذا لا يسمع العالم”؟

وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، تقدمت جنوب أفريقيا بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية متهمة إسرائيل بانتهاك مؤتمر الأمم المتحدة حول الإبادة في عملياتها العسكرية في غزة. وفي مارس/آذار 2024، قالت مقررة الأمم المتحدة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي، المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في 1967، أن هناك “أرضية معقولة” تبين أن إسرائيل تمارس حرب الإبادة في غزة.

في ديسمبر/كانون الأول 2024، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً اتهمت فيه إسرائيل بمواصلة ارتكاب حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل. عنوان التقرير “تشعر أنك أقل من إنسان: حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة”. وقالت أغنيس كالامار (Agnès Callamard)، الأمينة العامة للمنظمة، إن “إسرائيل تمارس أعمالاً ممنوعة وفقاً لمؤتمر الإبادة للأمم المتحدة، بنية تدمير الفلسطينيين في غزة. وهذه الأعمال تشمل القتل، وإلحاق أضراراً جسدية ونفسية، وتقصد عن سابق تصميم إلى خلق الظروف المصممة إلى التدمير المادي للفلسطينيين. وشهراً بعد شهر، عاملت إسرائيل الفلسطينيين وكأنهم جماعة أقل من بشر لا يستحقون حقوق الإنسان والكرامة، مؤكدة نواياها بتدميرهم جسدياً”، وأضافت، “تحقيقاتنا الميدانية يجب أن تخدم كمكالمة ايقاظ للمجتمع الدولي: هذه حرب إبادة. ويجب أن تتوقف الآن”.

وفي الشهر ذاته، أصدرت منظمة حقوق الانسان هيومان رايتس واتش تقريراً حول أعمال الإبادة في غزة، جاء فيه إن إسرائيل “قامت عن قصد بخلق الظروف المعيشية الهادفة إلى تدمير الفلسطينيين جسدياً في غزة إما كلهم أو جزءاً منهم. هذه السياسة التي تعتمد كأعمال قتل جماعي ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة تعني أن السلطات الإسرائيلية قد ارتكبت جريمة الإبادة ضد الإنسانية، والجريمة لا تزال مستمرة. وهذه الجريمة ترقى إلى مستوى واحد من الأعمال الخمسة للإبادة وفقا لمؤتمر الإبادة للأمم المتحدة في 1948″.

وفي شهر يوليو/تموز السابق، وفي خطوة هي الأولى من نوعها، أكدت منظمتين لحقوق الانسان في إسرائيل هما بتسيلم (B’Tselem) و”أطباء من أجل حقوق الانسان” أن حكومة بنيامين نتنياهو ترتكب حرب إبادة ضد الفلسطينيين في غزة، وعلى حلفاء إسرائيل في الغرب واجب قانوني وأخلاقي في وقف هذه الحرب. وفي تقرير بعنوان “إبادتنا” تحدثت منظمة بتسيلم عن قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، وتدمير مناطق واسعة من المدن الفلسطينية، والاقتلاع المقصود لحوالي مليوني فلسطيني، وتدمير الامدادات الغذائية وغيرها. ورأت أن هذه الممارسات ترقى إلى “نشاطات منسقة لتدمير المجتمع الفلسطيني عن قصد في قطاع غزة. بكلمات أخرى، إسرائيل ترتكب الإبادة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة”. ولتأكيد نوايا القادة الإسرائيليين بتدمير المجتمع الفلسطيني، اقتبست المنظمة كلماتهم التي تحرض على الفلسطينيين مثل قول وزير الدفاع السابق يوآف غالانت إن الفلسطينيين هم “حيوانات بشرية”، وقول مسؤولين أخرين أنه يجب طرد الفلسطينيين من غزة.

وجاء في تقرير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، إن إسرائيل تقوم عن قصد بتدمير النظام الصحي الفلسطيني في غزة وغيره من الأنظمة الضرورية لبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة، وأضاف التقرير، “وهذا يشمل الهجمات المباشرة ضد المستشفيات، ومنع الإمدادات الطبية، وتعطيل نقل المرضى، وقتل أو اعتقال المسؤولين الصحيين. هذه ليست أضرار حرب، هذه أعمال مقصودة تهدف إلى الحاق الضرر بالفلسطينيين كجماعة”.

وفي منتصف الشهر الماضي، نشر الباحث الإسرائيلي أومير بارتوف الخبير في شؤون المحرقة ودراسات الابادة في جامعة براون مقالاً مطولاً في صحيفة النيويورك تايمز وثق فيه نوايا القادة الإسرائيليين بتدمير فلسطينيي غزة، وخلص إلى القول، “استنتاجي الذي لا مهرب منه، هو أن إسرائيل تمارس حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني. وكوني تربيت في بيت صهيوني، وعشت النصف الأول من حياتي في إسرائيل، وخدمت في الجيش الإسرائيلي كجندي وكضابط، وقضيت معظم حياتي في إجراء الأبحاث والكتابة عن جرائم الحروب والمحرقة، فإن الوصول إلى هذا الاستنتاج مؤلم، وهو استنتاج قاومته ما استطعت. ولكنني أُدرّس الصفوف عن الإبادة منذ ربع قرن. أنا أدرك حرب الإبادة عندما أراها.”

بعد المحرقة النازية ضد يهود أوروبا برز شعار “أبدا مرة أخرى” (Never again) للتأكيد بعدم التسامح مع محرقة أخرى أو حرب إبادة ضد أي جماعة في العالم. ولكن منذ الحرب العالمية الثانية ومؤتمرات حقوق الإنسان، بقي العالم يشهد جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وحروب إبادة، في داخل بعض الدول ضد الأقليات المختلفة أو ضد جماعات في الخارج بهدف تدميرها كلياً أو جزئياً. وبعد كل جريمة قتل جماعي أو حرب إبادة، تبرز الانتقادات اللاذعة مما يسمى المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الانسان، ويقول الجميع بصوت واحد كجوقة متماسكة “أبداً مرة أخرى”، دون أن نعنيها بصدق. الحقيقة المؤلمة هي أن العالم قد اعتاد على مدى سنتين تقريباً على رؤية الدمار البشري والمادي في غزة، على رؤية جثث القتلى، والثكالى والأطفال العراة الذين يعانون من الجوع، والمدنيون الفلسطينيون تحت أشعة الشمس الحارقة، وهم يركضون، ويعرضون حياتهم لخطر القتل على يد الجنود الإسرائيليين، للحصول على بعض الإمدادات التي تلقيها طائرات بعض الدول في القطاع.

في غزة، هناك حرب إبادة تشنها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، ومع أنها حرب إبادة جماعية، إلا أن كل فلسطيني يموت بمفرده، وهو يراقب العالم، يراقب مأساته بصمت وعجز، وإن تمتم بين وقت وآخر “أبداً مرة اخرى” دون أن يعنيها.

الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.

هشام ملحم

باحث غير مقيم

التحليلات

ترامب وشبح جيفري أبستين

ترامب الذي وصل إلى البيت الأبيض لأسباب عديدة من بينها استغلاله وتغذيته لنظريات المؤامرة، يجد نفسه الآن يواجه شبح هذه النظريات.

هشام ملحم

6 دقائق قراءة

أول ستة أشهر من ولاية ترامب الثانية

استخدم ترامب الصلاحيات التنفيذية لتجاوز الكونغرس وتفكيك المؤسسات الحكومية خلال الأشهر الستة الأولى من ولايته الثانية، واصفاً ما قام به بـ«العصر الذهبي» لسلطاته؟

هشام ملحم

7 دقائق قراءة

الرئيس دونالد ترامب يرفع نسخته الموقعة من مشروع قانون التخفيضات الضريبية وتخفيضات الإنفاق في البيت الأبيض، 4 يوليو 2025. (صورة من أسوشييتد برس/أليكس براندون)

إيران: بيت دون سقف

في حملة عسكرية دقيقة نفّذتها إسرائيل والولايات المتحدة على مدى عام، تم تدمير المنشآت النووية ومخازن الصواريخ والشبكات الوكيلة لإيران، واغتيال كبار العلماء والقادة، ما أسفر عن كشف هشاشة استراتيجية الردع الإيرانية، وعزلة دبلوماسية، وأزمة ثقة داخلية حادة متعددة الأوجه.

هشام ملحم

6 دقائق قراءة

قرار الرئيس ترامب

بين الضغوط الداخلية والتحالفات الدولية، ترامب يقترب من اتخاذ قرار قد يغير وجه الشرق الأوسط لعقود.

هشام ملحم

9 دقائق قراءة

عرض الكل