العنف الإسرائيلي يزور دولة عربية أخرى
هجوم إسرائيل على الدوحة يهزّ معادلة الأمن الخليجي ويحرج واشنطن، فيما قطر جهودها للوساطة في إنهاء الحرب في قطاع غزة.

يعتبر الهجوم الإسرائيلي على الدوحة أول انتهاك عسكري سافر من نوعه لدولة عربية خليجية حليفة لواشنطن، وتضم أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، حيث انضمت قطر إلى قائمة الدول التي زارها العنف الإسرائيلي منذ بداية الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة عقب هجوم حركة حماس في أكتوبر/تشرين الأول 2023. جدير بالذكر، أنه في 2010 اغتالت إسرائيل القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في دبي.
ينسجم هذا الهجوم مع النمط الإسرائيلي المعروف بتجاهل سيادة الدول، والاستعداد لكسر المحرمات والمحظورات التي تفرضها القوانين والأعراف الدولية. وإضافة إلى فلسطين، تضم القائمة لبنان وسوريا التي اجتاحتهما إسرائيل أكثر من مرة، ووسعت إسرائيل دائرة العنف لتشمل إيران في الشمال، واليمن في الشرق، وقبل هاتين الدولتين تونس في 1985، وهذه الدول تبعد عن إسرائيل مئات الأميال. وكما قال أحد المحللين، “عندما استيقظ في الصباح أتساءل، أي عاصمة قصفت إسرائيل اليوم؟”
في السنتين الماضيتين، حوّلت إسرائيل قطاع غزة إلى أرض يباب، حيث تبدو البنايات في غزة وكأنها أهرامات من الركام. أدت سياسة الأرض المحروقة إلى قتل أكثر من 64 ألف فلسطيني، وتجويع واذلال من تبقى منهم، ما أدى إلى قيام منظمات دولية وخبراء ومؤرخين إلى اتهام إسرائيل بممارسة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين. ولم يعد من المستغرب أن يصف المراقبون والمحللون في العالم إسرائيل بالدولة “المنبوذة” أو الدولة “المارقة”. يكرر رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الادعاء منذ اجتياح غزة أنه يريد تغيير أو إعادة صياغة منطقة الشرق الاوسط. وهذا يعني عملياً استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها لفرض الهيمنة الإسرائيلية، التي لا يمكن ضمانها إلا بالدعم المباشر السياسي والعسكري الأميركي. في السنوات الأخيرة، تتصرف إسرائيل وكأنها القوة العظمى في المنطقة.
في السابق، كنا نتحسر أن الدول العربية من مصر إلى الخليج تعيش في ظل جيرانها غير العرب، إسرائيل وإيران وتركيا. اليوم، كل الدول العربية وإيران تعيش في ظل القوة الإسرائيلية. قبل أشهر خلال الحرب الجوية بين إسرائيل وايران، كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق طهران، وكأنها تحلق فوق بيروت في استهتار كامل بأي دفاعات مضادة. لا توجد أي مناعة في أي عاصمة عربية ضد عنف سلاح الجو الإسرائيلي.
السرعة التي أدانت بها الدول العربية، والرفض الدولي للاعتداء الإسرائيلي على قطر – الدولة التي تقوم مع مصر، وبدعم من الولايات المتحدة، بالوساطة للتوصل إلى وقف اطلاق النار في حرب غزة يشمل الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين – والذي يشمل أهم الدول الأوروبية، كانت تطوراً ايجابياً يؤكد استياء دول وشعوب عديدة جراء سياسات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين، والتهديد العلني باقتلاعهم من أراضيهم، والغطرسة التي تتصرف فيها القيادة الإسرائيلية تجاه الانتقادات الدولية، طالما بقيت الولايات المتحدة ورائها.
التضامن الخليجي مع قطر، والذي تمثل ليس فقط في ادانات دول الخليج للاعتداء الإسرائيلي، بل في زيارات قادة دولة الإمارات والسعودية للدوحة، لم يخف قلق واستياء هذه الدول الصديقة للولايات المتحدة من هشاشة التعهدات الأميركية التقليدية بدعم سيادة وحرمة أراضي هذه الدول، التي تستثمر مليارات الدولارات في الاقتصاد الأميركي، والتي انفقت مليارات كثيرة على شراء الأسلحة الأميركية. خلال أشهر، تعرضت قطر إلى قصف صاروخي من إيران ومن إسرائيل. قصف عاصمة خليجية يثير من جديد الأسئلة حول جدوى الدفاع المشترك لهذه الدول، وحول صدقية التعهدات الأمنية الأميركية، التي كانت على سبيل المثال غائبة عندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية لهجوم بالمسيرات الإيرانية قبل سنوات.
أبعد الرئيس دونالد ترامب نفسه عن الاعتداء الإسرائيلي، ولكنه في الوقت نفسه قال إن قيادات حماس تستحق أن تتعرض للاغتيال، ولكن محاولة الاغتيال برأيه جرت في المكان الخطأ. ترامب قال، “هذا قرار اتخذه رئيس الوزراء نتنياهو، وليس قراراً اتخذته أنا. القصف أحادي الجانب داخل قطر، وهي دولة ذات سيادة، وحليف وثيق للولايات المتحدة، وتعمل بجهد وبشجاعة، وتجازف معنا لتحقيق السلام لا يخدم أهداف إسرائيل ولا أهداف الولايات المتحدة”. وأضاف دون إحراج، “ولكن التخلص من حماس التي استفادت من بؤس سكان غزة هو هدف قيّم”.
وإذا كان ترامب صادقاً عندما قال إنه لم يكن لديه الوقت الكافي لتحذير قطر من الهجوم – قال رئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني إن الولايات المتحدة اتصلت بقطر بعد 10 دقائق من انتهاء الهجوم، لماذا لا يقول إن بنيامين نتنياهو قد أحرجه عندما أبقاه في الظلام، ولماذا يواصل القول إن نتنياهو “قال لي إنه يريد أن يحقق السلام”، ولماذا تقول الناطقة باسمه كارولين ليفيت إن الرئيس الأميركي يعتقد أن الهجوم “هو فرصة للسلام”.
خلال فترة قصيرة نسبياً، استخدمت إسرائيل الأسلحة الأميركية لاغتيال قيادات حماس في غزة وخارجها، وقيادات حزب الله في لبنان، ومسؤولين بارزين في اليمن، ودمرت الكثير من الأسلحة في سوريا، واغتيال مسؤولين ايرانيين في دمشق، وقصفت المنشآت النووية ومرابض الصواريخ في إيران. وقامت طائراتها العسكرية بالتحليق لأكثر من ألف ميل لقصف صنعاء وطهران.
وبغض النظر عما كان يعرفه أو لا يعرفه الرئيس الأميركي حول توقيت الهجوم الإسرائيلي، ما هو مؤكد إن الولايات المتحدة إما غير قادرة أو غير مستعدة للجم إسرائيل، ووقف هجماتها ضد دول المنطقة، وبعضها أصدقاء قدامى لواشنطن، ما يقوض، أو على الأقل، يلحق الأضرار بصدقية الولايات المتحدة كضامن أمني لحلفائها وخاصة في الخليج.
الأثر المباشر لمحاولة اغتيال قادة حماس في الدوحة، هو تجميد قطر لدورها في جهود الوساطة لوقف حرب غزة، بما في ذلك الافراج عن الرهائن الإسرائيليين، ولكن الآثار السلبية بعيدة المدى للاعتداء على قطر هو تعطيل محاولات الرئيس ترامب في المستقبل المنظور توسيع دائرة الدول العربية التي وقعت على اتفاقيات إبراهام قبل خمس سنوات خلال ولأيته الأولى.
ومهما فعلت إسرائيل فإنها لن تستطيع فرض “السلام الإسرائيلي” بالقوة على شعوب المنطقة حتى مع استمرار الدعم الأميركي. وسوف يبقى هناك من يقاوم هيمنة إسرائيل وسلوكها العدائي كدولة مارقة بكل الوسائل المتاحة. وهناك شروخ حتى في الدعم الأميركي، حيث تنحسر نسبة تأييد الرأي العام الأميركي لسياسات إسرائيل العدائية، وخاصة في أوساط الحزب الديموقراطي والأوساط الليبرالية بشكل عام، وفي أوساط الشباب والطلاب والمثقفين والفنانين.
الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.