"*" indicates required fields

This field is for validation purposes and should be left unchanged.

اشترك

عند الاشتراك، فإنك توافق على سياسة الخصوصية المعتمدة لدينا.

Subscription Settings
التحليلات

الشرق الأوسط يدخل مرحلة انتقالية غامضة

ليس شرقاً أوسط جديداً، بل هدنةٌ طويلة على حافة الانفجار، انتصار بلا ترتيب سياسي، ونظام قديم يتداعى من دون بديل واضح.

هشام ملحم

7 دقائق قراءة

نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مكتب رئيس الوزراء في القدس، 22 أكتوبر 2025. (صورة من نيويورك تايمز/أسوشييتد برس/ناثان هوارد)

يقول الفيلسوف الايطالي، أنطونيو غرامشي، “الأزمة تتكون بالتحديد من حقيقة أن القديم في حالة الموت، والجديد لم يخلق بعد. في الفترة الانتقالية تظهر مجموعة مختلفة من الأعراض السقيمة”.

بعد مرور سنتين على حرب مدمرة، انحصرت في البداية بين حركة حماس وإسرائيل، سرعان ما تحولت إلى حرب إقليمية، أحدثت شروخاً كبيرة وتحولات جذرية في النظام السياسي والأمني الإقليمي، الذي كانت تعيش فيه دول المنطقة الجغرافية الممتدة من مصر إلى إيران، منذ بروز الثورة الإيرانية في 1979، وعلى مدى 46 سنة، قادت إيران خلالها ما يسمى “بمحور الممانعة” المُشكل من تنظيمات مسلحة في لبنان والعراق واليمن، إضافة إلى سوريا التي ترتبط بإيران سياسياً وعسكرياً ومذهبياً، في مواجهة دول الجزيرة العربية ومصر والأردن وإسرائيل في “تحالف” ضمني تدعمه الولايات المتحدة.

أظهرت حرب السنتين، إلى حد كبير، هشاشة الردع الذي خلقته واستغلته إيران لتهديد دول المنطقة والمصالح الأميركية فيها. صحيح، إن النظام القديم في حالة نزيف وترّنح بعد تعرض جميع جبهاته إلى ضربات عسكرية إسرائيلية وأميركية مكلفة، ولكنه لم يلق حتفه بعد. والنظام الجديد أو البديل الذي يفترض أن يخرج من ركام النظام البائد، لا يزال غائباً.

الأعراض السقيمة والكئيبة والمروعة، التي تحدث عادة في الفترة الانتقالية بين القديم والجديد، التي تحدث عنها غرامشي، هي الفترة التي ستعيش فيها المنطقة قبل اندحار النظام القديم وولادة النظام الجديد. حوّلت حرب السنتين إسرائيل إلى القوة العسكرية المهيمنة على كامل المنطقة، ولكن هذا الانتصار العسكري سيبقى انتصاراً تكتيكياً، إذا لم يؤد إلى بروز نظام سياسي وأمني إقليمي جديد. وفي المقابل، لا تزال إيران تضمد جراحها، بعد ان مُنيت بنكسة عسكرية كبيرة، أضعفت كثيراً من نفوذها الاقليمي، ولكنها لا تزال قادرة نسبياً على ترهيب جيرانها.

الترحيب الدولي بوقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين والموقوفين الفلسطينيين (دون أي تهم)، يعكس رغبة واسعة بوضع حد للقتل الجماعي، ولكن على الرغم من أهمية هذا الحدث، إلا إنه من الخطأ التعامل مع خطة الرئيس ترامب وكأنها اتفاق سلام وضع المنطقة أمام أفق جديد وواعد. الرئيس ترامب، الذي يميل إلى شخصنة كل شيء، ويرفض ممارسة الديبلوماسية التقليدية، ويستبدلها بأسلوب عفوي يتسم بالمبالغات والتعميم والصور النمطية، تعامل خلال زيارته إلى إسرائيل ومصر وكأن خطته لوقف إطلاق النار أدت، بسبب شخصيته وإرادته واستعداده للضغط على الأطراف المعنية، إلى اتفاق سلام عادل وشامل أنهى نزاعاً دموياً مستمراً منذ أكثر من قرن من الآلام والاقتلاع والمجازر، التي استهدفت الفلسطينيين والإسرائيليين وغيرهم من سكان الدول المحيطة بفلسطين التاريخية.

تعامل الرئيس الأميركي مع قمة شرم الشيخ في مصر، حيث إلتقى بقادة عدد من الدول العربية والاسلامية والأوروبية، وكأنها بالفعل احتفالاً بولادة شرق أوسط جديد. المطلعون على التاريخ الحديث للمنطقة يذكرون أكثر من ولادة وهمية لهذا الشرق الأوسط الجديد، تم الاحتفال بها أكثر من مرة خلال عقود ما كان يسمى ب “عملية السلام”.

ومرة أخرى أظهر الرئيس ترامب خلال تصريحاته في إسرائيل ومصر أن معرفته بتعقيدات وتاريخ النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي المعقد، سطحية ومحرجة للغاية، مثل تكرار ادعاءاته من أنه أنهى نزاعاً مستمراً منذ آلاف السنوات، عجز غيره عن إنهائه، بينما ما حققه لا يتعدى وقف القتال، وربما لوقت محدود.

لم يتطرق الرئيس الأميركي، خلال تصريحاته الانتصارية، إلى أن الأفق السياسي يتضمن دولة فلسطينية مستقلة، وإن اعترفت الخطة “بتطلعات” الشعب الفلسطيني بتحقيق تقرير المصير، كما غاب عن الخطة أي ذكر لاستمرار الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية واقتلاع الآلاف من سكانها. طبعاً، لم يذكر ترامب مصير مدينة القدس، بعد أن اعطى لنفسه حق إهدائها لإسرائيل خلال ولايته الأولى.

ويبين تاريخ المفاوضات العربية-الإسرائيلية خلال العقود الماضية أن تحقيق تقدم ولو بسيط يتطلب تدخلاً مباشراً وقوياً من الرئيس الأميركي، الذي يضطر إلى الإلمام بتعقيدات وتاريخ النزاع العربي-الإسرائيلي، وهذا ما فعله رؤساء مثل بيل كلينتون، وإلى حد أقل باراك أوباما. ولذلك كان من المستغرب تعيين الرئيس ترامب رئيساً لمجلس السلام العالمي، وهو المعروف بتغيير آرائه والتراجع عن التزاماته وعدم انضباطه، الأمر الذي سوف يخلق الشكوك الشرعية في جديته كصانع لسلام حقيقي بين الفلسطينيين وإسرائيل. الذين يتمتعون بذاكرة جيدة، يذكرون أن ترامب قبل أشهر تحدث عن وضع قطاع غزة تحت اشراف الولايات المتحدة، وتحويله إلى ” ريفييرا الشرق الاوسط”، طبعا بعد ترحيل الفلسطينيين عن القطاع.

هشاشة وقف إطلاق النار واحتمال استئناف القتال بداً واضحاً خلال تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق حين تخلفت حركة حماس عن تنفيذ جميع بنوده، ومنها إعادة جميع رفات الرهائن الإسرائيليين، الأمر الذي أدى إلى صدور تحذيرات وتهديدات من قبل الرئيس ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. وبالفعل بعد مقتل جنديين إسرائيليين في غزة، قامت إسرائيل بشن غارات ضد غزة أدت إلى قتل حوالي 45 شخصاً، بدت الخطة وكأنها في طريقها إلى الإنهيار. قيام حركة حماس بإعادة تنظيم صفوفها وفرض سيطرتها العسكرية على القطاع، بما في ذلك إعدام الفلسطينيين الذين تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل (دون أي محاكمات عادلة)، واستمرار المؤشرات بأن حماس لا تفكر بالتخلي عن سلاحها، كل هذه العوامل أظهرت هشاشة الخطة الغامضة، والذي يتطلب تنفيذها إجراء مفاوضات مفصلة حول معظم بنودها العشرين.

في السابق قام رؤساء أميركيين من الحزبين بالضغط على إسرائيل من خلال تجميد أو تأخير تسليمها الأسلحة، أو التهديد (كما فعل هنري كسينجر) بإعادة النظر في العلاقة الثنائية، إلا إنه لم يحدث أن خاطب رئيس أميركي رئيس وزراء إسرائيلي بشكل فظ، أو أرغمه على الاعتذار من قائد عربي، عندما طلب منه الاتصال بأمير قطر، أو القول بشكل علني وفظ، “لن اسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية” ، كما فعل الرئيس ترامب. والمفارقة هي أن ترامب سارع إلى وضع خطته عقب الهجوم الذي شنته إسرائيل ضد قطر، في تصعيد نوعي غير مسبوق ضد دولة خليجية تربطها علاقة عسكرية قوية بالولايات المتحدة، حيث لم يخف ترامب غضبه من نتنياهو.

ولكن ترامب لم يترجم أقواله إلى أفعال، وخدمة مصالح بلده، وتساهل مع انتهاك إسرائيل لأول وقف لإطلاق النار بعد ستة أسابيع من التوصل إليه، بل فاجأ وكافأ إسرائيل، حين تحدث بشكل اعتباطي عن عزمه على تحويل غزة إلى “ريفييرا” جديدة على المتوسط. كما أن ترامب لم يضغط على إسرائيل لحظرها الكامل للإمدادات الإنسانية إلى غزة، الأمر الذي أدى إلى انتشار المجاعة في القطاع.

حققت إسرائيل انتصاراً سياسيا بارزاً، حين قوضت المفاوضات الأميركية-الإيرانية النووية في الربيع الماضي، التي طالب بها ترامب بعد توجيه ضربة عسكرية لإيران. لا بل إنها أفلحت في إقناع الرئيس ترامب في يونيو/حزيران الماضي في مشاركتها في غاراتها ضد مرابض الصواريخ والمفاعلات النووية في إيران، حين أمر ترامب القاذفات الاستراتيجية بقصف المنشآت النووية في ناتانز وفوردو، التي بنتها إيران خلال العقود الماضية تحت الأرض. الهجوم المشترك غير المسبوق، كان دليلاً سافراً على قدرة إسرائيل على التأثير على الولايات المتحدة لاتخاذ قرارات عسكرية هامة تخدم مصلحة إسرائيل في الدرجة الأولى.

كما قامت إسرائيل، بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا – بسبب انشغال حزب الله في مساندة حماس، وتعرض إيران إلى هجمات إسرائيلية مكلفة – ووصول الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة، بشن غارات مكثفة ضد أهداف عسكرية في سوريا، وانتهاك الاتفاقات الموقعة مع دمشق حول انتشار القوات على الحدود، وتوسيع احتلالها لجنوب سوريا، في رسالة واضحة للنظام الجديد في دمشق إنها ستوسع من المنطقة المنزوعة من السلاح القريبة من حدودها، وتريد إبقاء التوتر بين بعض مكونات المجتمع السوري،  وفي رسالة ردع واضحة إلى تركيا المقربة من نظام الشرع. ومع أن الرئيس ترامب أراد إخراج سوريا من عزلتها الإقليمية والدولية، وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا منذ عقود، إلا أنه لم يسع إلى وقف الهجمات الإسرائيلية. وعلى الرغم من نجاح واشنطن في التوسط بين إسرائيل ولبنان وتحقيق اتفاق لوقف إطلاق النار، استمرت إسرائيل في انتهاكها المنظم للاتفاق، متجاهلة دعم واشنطن للرئيس جوزيف عون وحكومة رئيس الوزراء نواف سلام، واستمرار تسليحها للجيش اللبناني بعد موافقة السلطة اللبنانية على نزع سلاح حزب الله. إدارة الرئيس ترامب لم تتدخل بشكل مباشر لوقف الهجمات الإسرائيلية التي أدت إلى تدمير آلاف الأبنية في جنوب لبنان وقتل العديد من المدنيين.

قيام الرئيس ترامب بإرسال نائبه جي دي فانس والمبعوثين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر ووزير الخارجية ماركو روبيو إلى إسرائيل يعكس قلق ترامب من احتمال انهيار الاتفاق الهش، ورغبته بصيانته، ربما لأنه يدرك أن بنيامين نتنياهو غير مقتنع كلياً بالخطة الأميركية، ويفضل مواصلة تعامله مع الفلسطينيين ودول المنطقة عبر الوسائل العسكرية. وإسرائيل لا تزال في موقع قوي لعرقلة تنفيذ الخطة من خلال وقف، أو تأخير وصول الإمدادات الإنسانية، أو القيام بهجمات برية أو جوية لإبقاء الضغط على حركة حماس، أو عرقلة تشكيل “قوة الاستقرار” الدولية أو رفض الانسحاب الكلي من قطاع غزة. ومع أن الخطة الأميركية تشير إلى “تطلعات” الفلسطينيين بحق تقرير مصيرهم (إنشاء دولة مستقلة)، إلا إن نتنياهو في خطابه أمام الدورة العامة للأمم المتحدة جدد رفضه القاطع لإنشاء دولة فلسطينية. في المقابل، إذا واصلت حركة حماس رفضها التخلي عن سلاحها، فإن ذلك سيجعل تنفيذ الخطة صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

وخلال وجود نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في إسرائيل، صّوت البرلمان الإسرائيلي على مشروع قرار أولي بفرض السيادة الإسرائيلية على جميع المستوطنات في الضفة الغربية.

وفي دليل آخر على استمرار عزلة إسرائيل في العالم ومعارضة الرأي العالم الدولي لسياساتها، بما في ذلك الولايات المتحدة، فقد جاء في استطلاع للراي أجرته شبكة رويترز ومؤسسة ايبسوس، أن 59 بالمئة من الأميركيين يؤيدون اعتراف الولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك 80 بالمئة من الناخبين الديموقراطيين، و41 بالمئة من الناخبين الجمهوريين.

ما جرى خلال قمة شرم الشيخ ليس ولادة لشرق أوسط جديد، ولكنه احتفال شرعي بوقف أطول حرب بين إسرائيل والفلسطينيين، تحولت بسرعة إلى حرب اقليمية عززت من هيمنة إسرائيل العسكرية، ووضعت المنطقة، المحفوفة أصلاً بالتوتر السياسي والتطرف الديني، في مرحلة انتقالية ستكون مفتوحة لوقت طويل لكل الأعراض والظواهر السقيمة والمقلقة، قبل موت النظام القديم، وولادة النظام الجديد.

الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.

هشام ملحم

باحث غير مقيم

التحليلات

الشرق الأوسط أمام مفترق طرق

دفعت حرب غزة المنطقة إلى مفترق طرق، تجميد مسارات التطبيع، اتساع رقعة المواجهات من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن، وتزايد عزلة إسرائيل مع تحولات في الرأي العام والتحالفات.

هشام ملحم

6 دقائق قراءة

عن فلسطين وإسرائيل وإسبرطة

اعترافات أوروبية بالدولة الفلسطينية، وزيادة المطالبة بمساءلة إسرائيل دوليا، في حين يسعى نتانياهو إلى مزيد من العسكرة، فهل يقود ذلك إلى عزلة أعمق لإسرائيل على المستوى الدولي؟

هشام ملحم

8 دقائق قراءة

العنف الإسرائيلي يزور دولة عربية أخرى

هجوم إسرائيل على الدوحة يهزّ معادلة الأمن الخليجي ويحرج واشنطن، فيما قطر جهودها للوساطة في إنهاء الحرب في قطاع غزة.

هشام ملحم

4 دقائق قراءة

الرئيس ترامب، الحاكم بأمره

نجح ترامب في ترك بصماته على جميع أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، ويتساءل الكثيرون ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قادرة في المستقبل على إصلاح أضراره، إنقاذ ما تبقى من قيم وممارسات الديموقراطية الأميركية.

هشام ملحم

8 دقائق قراءة

عرض الكل