إيران: بيت دون سقف
في حملة عسكرية دقيقة نفّذتها إسرائيل والولايات المتحدة على مدى عام، تم تدمير المنشآت النووية ومخازن الصواريخ والشبكات الوكيلة لإيران، واغتيال كبار العلماء والقادة، ما أسفر عن كشف هشاشة استراتيجية الردع الإيرانية، وعزلة دبلوماسية، وأزمة ثقة داخلية حادة متعددة الأوجه.

لا أحد يعلم بيقين، بما ذلك القيادة الإيرانية، مدى الأضرار والدمار الذي ألحقته الغارات الإسرائيلية والأميركية ضد المنشآت النووية الإيرانية خلال ما سمّي بحرب “الإثني عشرة” يوماً. حجم الأضرار الحقيقية سيكون بين اصرار الرئيس دونالد ترامب أن الغارة الأميركية ضد المنشآت النووية في أصفهان وناتانز وفوردو قد “محت” كلياً البرنامج النووي الإيراني، وبين اعتراف القيادة الإيرانية وتقويم الوكالة الدولية للطاقة النووية إن البنية التحتية النووية قد تعرضت لأضرار هامة، ولكنها أفلتت من الدمار الشامل. هذا النقاش مستمر، وأحيانا بنبرة حادة، بين السياسيين والخبراء التقنيين في واشنطن وفي العواصم الغربية، على خلفية حقائق لا يمكن تجاهلها، أبرزها مصير أكثر من 400 كلغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمئة، وهي النسبة التي تقل قليلاً عن اليورانيوم المخصب المستخدم في تطوير الأسلحة النووية.
ولكن ما يمكن قوله بكثير من اليقين هو أن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المنشآت النووية في عمق إيران، وألحقت بها أضرارا جسيمة، وإلحاق دمار كبير في مرابض الصواريخ الباليستية ومصانعها ومحطات الرادار، واغتيال 30 ضابط من الصف الأول من القيادات العسكرية والاستخباراتية و11 عالماً نووياً، على أقل تقدير، والاختراق الكبير والمحرج للاستخبارات الإسرائيلية للأجهزة الإيرانية، وضع الجمهورية الإسلامية أمام أكبر تحد استراتيجي تواجهه منذ الأيام الأولى التي عقبت الغزو العراقي في سبتمبر/أيلول 1980. جاءت الغارات الإسرائيلية عقب حرب مستمرة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، أدت إلى القضاء على حركة حماس كقوة قتالية، صاحبها معركة استنزاف للترسانة الصاروخية لحزب الله في لبنان، والقضاء على أبرز قياداته السياسية والعسكرية بعد أن اخترقتها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالعمق. كما قامت إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها بتوجيه ضربات موجعة للقوات الحوثية في اليمن. وجاءت الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا لحرمان إيران من حليفها العربي الوحيد، وبروز نظام معاد لها في دمشق.
كشفت المواجهة العسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران من جهة أخرى، أن استراتيجية طهران للردع – المبنية على بناء قدراتها النووية ووضعها على عتبة تطوير سلاحاً نووياً، وبناء قوة صاروخية كبيرة، إضافة إلى إنفاق مبالغ كبيرة على إقامة منظومة دفاعية/هجومية إقليمية، تشمل سوريا وحزب الله، وبعض الميليشيات العراقية، إضافة إلى القوات الحوثية في اليمن – قد فشلت بشكل سافر في ردع أو هزيمة أي هجوم تتعرض له من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة. الجمهورية الإسلامية لا تواجه اليوم مضاعفات نكسة عسكرية كبيرة فحسب، بل تواجه أزمة وجودية. بعد حرب استمرت لأقل من أسبوعين، خاضتها إيران بمفردها، وكأن الجنرال قاسم سليماني، الذي أمر الرئيس ترامب باغتياله خلال زيارة له إلى بغداد في يناير/كانون الثاني 2020، لم يعمل لعقود على بناء منظومة دفاعية إقليمية مكلفة، تجد إيران نفسها مكشوفة، وكأنها بيت دون سقف.
الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران في السنة الماضية أدت إلى قيام إسرائيل بتدمير جزء أساسي من الدفاعات الجوية الإيرانية. وأكملت إسرائيل المهمة خلال الأيام الأولى من الحرب الأخيرة حين دمرت ما تبقى من مرابض بطاريات الصواريخ من طراز أرض-جو، مع ما تبقى من قدرات سلاح الجو الإيراني المحدودة، بما في ذلك ما تبقى من الطائرات إف-14 أميركية الصنع، التي زودتها واشنطن لشاه إيران قبل إطاحة الثورة الإيرانية بنظامه في 1979. الهجمات الجوية الدقيقة التي شنتها إسرائيل بناء على معلومات استخباراتية دقيقة للغاية ضد القيادات الإيرانية العسكرية والنووية والمنشآت النووية، هزت القيادة السياسية والدينية، وأرغمت المرشد الأعلى علي خامنئي بالنزول تحت الأرض والامتناع عن مخاطبة الإيرانيين أو الظهور أمامهم خلال الأيام العصيبة الأولى من الحرب، أيضاً جعل إيران تبدو سياسياً، وليس عسكرياً فقط، وكأنها بيت دون سقف.
الجمهورية الإسلامية اليوم معزولة دولياً وإقليمياً أكثر من أي وقت آخر في تاريخها. روسيا والصين التي تربطها بهما علاقات ومصالح اقتصادية وعسكرية هامة لم تفعلا أي شيء يذكر، حتى ديبلوماسياً، باستثناء إصدار بيانات التضامن، والحض على إنهاء الحرب بسرعة. الدول الإقليمية والأوروبية، بغض النظر عن تحفظاتها على كيفية إدارة الحرب، وحتى إداناتها العلنية لقصف إيران، وافقت ضمناً على تدمير أو تأخير البرنامج النووي الإيراني لأشهر أو سنوات. مستشار ألمانيا، فريدريك ميرز، قالها بصراحة خلال قمة الدول الصناعية السبعة في كندا من أن إسرائيل بتدميرها للبنية التحتية النووية في إيران “تقوم نيابة عنا كلنا بهذا العمل القذر”، معرباً عن احترامه الكبير “لشجاعة” إسرائيل وجيشها في تحقيق ذلك.
الشعب الإيراني، الذي انتفض أكثر من مرة ضد قمع النظام السلطوي في طهران وضد اخفاقه الاقتصادي، ما أدى الى ردود فعل عنيفة ودموية من قبل الحرس الثوري وغيره من أجهزة الترهيب التي يملكها النظام، يتوقع موجة جديدة من القمع، كما تبين تجارب الماضي بعد كل أزمة يواجهها النظام، وذلك باسم صيانة الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية في وجه الخطر الخارجي. السؤال السياسي الوحيد الذي تواجهه القيادة الإيرانية، التي على رأسها المرشد خامنئي البالغ من العمر 86 سنة، مع القيود الجسدية والذهنية التي يفرضها هذا السنّ المتقدم، هو هل ستتأقلم إيران مع المناخ الاستراتيجي الجديد الذي فرضته الحرب، أم ستحافظ على نهجها التقليدي القديم الذي أظهرت الحرب محدوديته وعجزه؟
السردية العلنية الإيرانية حول نتائج الحرب هي سردية انتصارية، على الرغم من اخفاق إيران في اسقاط طائرة إسرائيلية واحدة او أسر طيار إسرائيلي وحيد. ومع أنه يجب ألا نستهين بقدرة بضع صواريخ إيرانية على اختراق القبة الحديدية، وغيرها من الدفاعات الإسرائيلية والأميركية المضادة للصواريخ، وإلحاق أضرار بشرية ومادية في إسرائيل، بدت كبيرة وهامة لسبب أساسي، وهو لأنها غير مسبوقة في إسرائيل، التي لم تتعرض مدنها لأي قصف عربي هام في جميع حروبها السابقة، إلا أن ذلك لا يرقى إلى مستوى الانتصار الذي تدعيه طهران. هذه السردية الانتصارية، تذكرنا بالسردية المضللة لنظام صدام حسين في العراق رداً على الغزو الأميركي، وكلنا نذكر تصريحات وزير الإعلام العراقي آنذاك محمد سعيد الصحّاف في هذا الصدد.
ولكن هذه السردية العلنية المصممة للاستهلاك المحلي، لا تخفي وجود نقاش حقيقي داخل النظام حول موضوعين رئيسيين: إعادة بناء البرنامج النووي وفق الظروف الغامضة السابقة حول الهدف الأساسي للبرنامج (تخصيب اليورانيوم لأهداف مدنية، أم ايصال إيران إلى عتبة تصنيع السلاح النووي دون اجتياز العتبة. أم السعي بسرعة، وتحت المراقبة الشديدة لإسرائيل والولايات المتحدة إلى تطوير ولو قنبلة نووية واحدة، مع صاروخ قادر على حملها). الموضوع الأخر هو ما الذي ستفعله إيران فيما تبقى من منظومتها الردعية الإقليمية التي تم تدميرها في غزة، وإلحاق أضرار جسيمة بحزب الله في لبنان، وخاصة في ضوء التزام حزب الله باتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل خلال الحرب الجوية بين إسرائيل وإيران، والتزام الحوثيين بوقف إطلاق النار خلال الفترة ذاتها مع الولايات المتحدة.
في هذا السياق، تعمل واشنطن على تعميق عزلة إيران في المنطقة، في الوقت الذي تسعى فيه إلى استئناف المفاوضات معها حول مستقبل برنامجها النووي. وهنا يجب النظر إلى قرار الرئيس ترامب ووزارتي المالية والخارجية رفع العقوبات رسمياً عن سوريا، وفتح الطريق أمام تطبيع العلاقات، بدعم خليجي لمساعدة سوريا على البقاء خارج الفلك الإيراني. أيضاً، يجب أن نرى من هذا المنظور اصرار واشنطن عبر السفير الأميركي في تركيا، والمبعوث لسوريا ولبنان توماس باراك على قيام الحكومة اللبنانية بنزع سلاح حزب الله، لاستعادة حصرية السلاح في يد حكومة تتمتع وتمارس السيادة على أراضيها، ولحرمان إيران من آخر جبهة لها مع إسرائيل، ووقف تدخلها السافر المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية اللبنانية.
تواجه إيران تحديات سياسية واستراتيجية واقتصادية لم تواجه مثلها منذ انتصار الثورة الإيرانية سوف ترغم القيادة في طهران على انقاذ النظام بالدرجة الأولى مع ما يحمله ذلك من أخطار لا يمكن التنبؤ بطبيعتها. الدمار الذي لحق بالبنية التحتية النووية مع انحسار الخبرة العلمية البشرية بسبب اغتيال العلماء، الذي صاحبه اختراق استخباراتي محرج أسفر عن مقتل 30 شخصية أمنية بارزة، إضافة إلى التخلص من جزء كبير من الترسانة الصاروخية، وانهيار جزء هام من منظومة الردع الإيرانية الإقليمية، وصعوبة وربما استحالة إعادة بنائها، كل هذه التحديات تجعل إيران تبدو بالفعل اليوم وفي المستقبل المنظور، ضعيفة نسبياً، ومكشوفة استراتيجياً وسياسياً، وكأنها بيت دون سقف.
الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.