2025 سنة مفصلية بامتياز
جاءت سنة 2025 لتؤكد من جديد أن أي تسونامي أميركي، سياسي أو اقتصادي، لا يمتحن فقط الولايات المتحدة، بل يحمل فوضاه إلى أقاصي الأرض.
التغييرات العالمية التي جلبتها سنة 2025 في السياسة والاقتصاد والذكاء الاصطناعي، سوف تخيم على العالم لسنوات طويلة. هناك سنوات تتسم بالاضطرابات والحروب والأزمات، وسنوات تتميز بهدوء نسبي وكأن العالم في أجازة. ثم جاءت سنة 2025 لتؤكد من جديد أن أي تسونامي أميركي، سياسي أو اقتصادي، لا يمتحن فقط الولايات المتحدة، بل يحمل فوضاه إلى أقاصي الأرض.
في اليوم الأول لوصوله إلى البيت الأبيض، وقع الرئيس ترامب على 20 قراراً تنفيذياً في سياق تطبيق شعاره “أميركا أولا “. هذه القرارات كانت مصممة لإحداث تغييرات جذرية في برامج الهجرة والطاقة، واستعادة الفعالية الحكومية، والعفو عن أنصاره الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في يناير 2021 بعد خسارته للانتخابات الرئاسية في 2020، التي لا يزال يدعي أنه فاز بها.
مع اقتراب 2025 من نهايتها، وصل عدد قرارات ترامب التنفيذية إلى 220 قراراً، حصل بموجبها على صلاحيات داخلية وخارجية غير مسبوقة، لم يتمتع بها أي رئيس أميركي آخر خلال 250 سنة من عمر الجمهورية، التي أسسها سياسيون حذروا دائماً من إعطاء الرئيس الأميركي صلاحيات جذرية على حساب المؤسسة التشريعية (الكونغرس) والقضائية (المحكمة العليا). جمع ترامب هذه الصلاحيات الواسعة خلال أقل من سنة، وساعده في ذلك كونغرس جمهوري مطّواع، يذكّر ببرلمانات الدول الأوتوقراطية، التي توافق شكلياً على قرارات الحاكم، وكذلك محكمة عليا أكثريتها من القضاة المحافظين، الذين نادراً ما يشككون بقرارات الرئيس. أدى شعار أو برنامج “أميركا أولا” بسرعة إلى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية.
عاد الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض مع وزراء ومساعدين يدينون له بولاء شبه مطلق، لكي يحقق ما يريده في ولايته الثانية دون أي قيود داخلية تُفرض عليه، كما حدث في ولايته الأولى. أراد ترامب الانتقام من خصومه السياسيين، ولتحقيق ذلك استخدم وزارة العدل لتعقبهم بتهم مبهمة وغير قانونية. وتجاهل ترامب الحزب الديموقراطي وقياداته، ودخل في مواجهات سياسية وقضائية مع وسائل الإعلام والمحاكم ومكاتب المحاماة الكبيرة وكبريات الجامعات، في محاولة لا مثيل لها للتأثير على المجتمع المدني بطرق جذرية لم يلجأ اليها أي رئيس سابق.
معركة ترامب الشرسة مع وسائل الإعلام وتقييده لحرية التعبير، تعتبر الأخطر والأشمل في التاريخ الحديث للجمهورية الأميركية: أوقف ترامب التمويل الفيدرالي للبرامج التلفزيونية والإذاعية العامة؛ وتدخل لحرمان وسائل الإعلام من الرخص القانونية، التي تسمح لها بالعمل، لمجرد استيائه من مضمون تغطيتها؛ ورفع شكاوى قضائية شخصية ضد شبكة التلفزيون سي بي أس، وصحيفتي ووال ستريت جورنال والنيويورك تايمز، وحصل على الملايين من الدولارات عندما تمت تسوية هذه الدعاوى.
وفي سياق الحرب التي أعلنها ترامب وحكومته ضد المهاجرين غير الموثقين، وحتى الموثقين، زاد ترامب من عديد أفراد الحرس الحدودي، ونشر هذه العناصر إضافة لعناصر الحرس الوطني، وحتى مشاة البحرية (المارينز) في شوارع المدن الرئيسية، مثل واشنطن العاصمة وشيكاغو ولوس انجليس وممفيس وغيرها، وفي معظم الحالات ضد رغبة حكام الولايات أو رؤساء البلديات. وقامت عناصر الحرس الحدودي بغارات استخدمت فيها القوة ضد المهاجرين أمام المتاجر والمحلات الكبيرة، وضد المواطنين الذين يتظاهرون ضد هذه الغارات. وفي هذا السياق شن ترامب انتقادات عنصرية ضد دول أفريقية، مثل الصومال وغيرها، وقال قبل أيام علناً ما قاله سراً في ولايته الاولى، من أنه يرغب برؤية مهاجرين من النروج والسويد والدانمارك، بدلاً من دول “قذرة” من العالم الجنوبي. وفي أعقاب اعتقال مهاجر أفغاني، قتل عنصرين شابين من عناصر الحرس الوطني قرب البيت الأبيض، رفع ترامب عدد الدول التي كان قد فرض حظر دخول كلي أو جزئي على مواطنيها من 19 إلى 39 دولة معظمها أفريقية. وتشمل القائمة الآن سوريا واليمن والسودان وموريتانيا وليبيا، إضافة إلى إيران. وفي أعقاب الهجوم الإرهابي الذي قام به شخصين مسلمين ضد المدنيين اليهود في أستراليا وقتل 15 منهم، تعمقت المشاعر المعادية للمسلمين في الولايات المتحدة، التي يعتقد أن لغة ترامب العدائية ضد المسلمين والمهاجرين من العالم الجنوبي قد اججتها أكثر، مما دفع بعضو مجلس النواب الجمهوري راندي فاين وعضو مجلس الشيوخ الجمهوري تومي تابيرفيل إلى الدعوة العلنية إلى ترحيل وطرد جميع المسلمين من الولايات المتحدة بغض النظر عن وضعهم القانوني، وهذا يعني المهاجر الشرعي أو غير الموثق، وحتى المواطن المسلم الذي يحمل الجنسية الأميركية.
وقام ترامب خلال أقل من سنة بحملة ترهيب ضد كبريات الجامعات، وحاول التدخل في برامجها التعليمية، والتهديد بوقف المساعدات الفيدرالية لمؤسسات التعليم العالي لتمويل الأبحاث العلمية والطبية فيها. كما هاجم مكاتب المحاماة الكبرى لمجرد أنها تمثل شخصيات سياسية يعاديها ترامب. كما قام ترامب بتسمية أغنى رجل في العالم أيلون ماسك، للإشراف على “تطهير” مؤسسات الدولة من الموظفين غير الأساسيين، الأمر الذي أدى إلى طرد آلاف الموظفين الفيدراليين، وإلغاء وزارة التعليم، وإلغاء الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي وصلت ميزانيتها في 2024 إلى 35 مليار دولار لتمويل برامج المساعدات التعليمية والغذائية، التي كانت تصل إلى الملايين في الدول النامية.
حملة ترامب ضد حريات التعبير واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني، خلقت حالة من الخوف والقلق في الأوساط السياسية والإعلامية والقضائية، بعد أن قام بشكل سافر في استخدام وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) لتعقب خصومه السياسيين.
في أعقاب الهجمات الجوية التي استهدفت عشرات الزوارق في البحر الكاريبي قرب فنزويلا، والتي تدعي حكومة ترامب أنها تحمل المخدرات (دون تقديم الأدلة على ذلك)، قام عدد من أعضاء الكونغرس، من الذين خدموا في القوات المسلحة أو اجهزة الاستخبارات بنشر شريط تلفزيوني موجه لأفراد القوات المسلحة يذكرونهم فيه أن القوانين تمنعهم من تنفيذ أي أوامر عسكرية غير قانونية. وكان رد ترامب سريعاً وانفعالياً، واتهم أعضاء الكونغرس “بالخيانة”، قائلا إن سلوكهم ” مثير للفتنة، ويعاقب بالموت”.
أعلن ترامب في الثاني من أبريل/نيسان الماضي “يوم التحرير” أو “اعلان الاستقلال الاقتصادي” عن العالم، مستخدماً هذه الفرصة لفرض رسوم جمركية بنسبة 10 بالمئة على جميع واردات الولايات المتحدة، ثم رفع هذه النسبة إلى مستويات غير مسبوقة ضد دول مثل الصين، وحتى بعض حلفاء واشنطن التقليديين مثل كندا والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي خلق اضطرابات ومخاوف من حدوث حرب تجارية دولية، وانقسام العالم إلى كتل اقتصادية متناحرة. وفقاً للقوانين الأميركية فإن الكونغرس، وليس الرئيس، هو الذي يفرض الرسوم الجمركية. واعتبر معظم الخبراء في الشؤون الاقتصادية أن الرسوم الجمركية هي في الواقع ضرائب غير مباشرة يدفعها المستهلك الأميركي. وبالفعل هذا ما شعر به المستهلك الأميركي.
كان ترامب يُعرف، خاصة في ولايته الأولى أنه الرئيس الذي يرفض زج الولايات المتحدة في
“حروب لا نهاية لها” مثل أفغانستان والعراق. ولكن ترامب في ولايته الثانية لم يتردد في استخدام القوة العسكرية أو التهديد العلني بها. وفي الأشهر الماضية، شاهد الأميركيون صوراً لعشرات الزوارق التي دمرها سلاح الجو الأميركي خارج المياه الإقليمية لفنزويلا، بتهمة تعقب وردع الاتجار بالمخدرات وتهريبها إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى مقتل حوالي مئة شخص. ويعتقد الكثيرون من المراقبين وتصريحات المسؤولين الأميركيين، وكانت آخرهم مديرة البيت الأبيض سوزي وايلز، من أن الهدف الرئيسي غير المعلن رسمياً لسياسة ترامب تجاه فنزويلا هو الاطاحة بنظام الرئيس نيكولاس مادورو. ونشر ترامب آلاف من أفراد المارينز قبالة شواطئ فنزويلا، إضافة إلى عشرات السفن الحربية، بما فيها أكبر حاملة طائرات في الترسانة الأميركية.
وللمرة الأولى، قامت الولايات المتحدة بالتدخل المباشر في الصراع بين إسرائيل وإيران، وفي يوليو/تموز الماضي، قصفت الطائرات الأميركية ثلاثة منشآت إيرانية نووية، وأنهى ترامب بذلك 12 يوماً من التراشق الصاروخي والغارات الجوية بين البلدين. ومع أن ترامب ادعى أن البرنامج النووي في إيران، إلا أن التقويمات التالية، أشارت إلى أن الغارة الأميركية أدت إلى تأخير البرنامج الإيراني لبضعة أشهر فقط. وسبق هذه المواجهة مع إيران، غارات وهجمات صاروخية، شنتها الولايات المتحدة ضد الميليشيات الحوثية في اليمن، التي كانت تعترض الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وتقصف إسرائيل بالصواريخ تضامناً مع الفلسطينيين في حربهم مع إسرائيل في غزة.
وفي فبراير/شباط الماضي، وصل سلوك الرئيس ترامب ونائبه جي دي فانس إلى مستويات خيالية أو سريالية، حين نصبا كميناً في البيت الأبيض للرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، حيث كان من المفترض بحث المساعدات الأميركية لكييف، وسبل وقف الحرب المستمرة التي بدأتها موسكو، وتقترب من سنتها الرابعة. وتحول الحوار العلني إلى سجال شخصي وحاد وانفعالي، بعد أن اتهم ترامب وفانس الزائر الأوكراني بأنه جاحد، ولا يشكر الولايات المتحدة على مساعداتها. وبدا البيت الأبيض وكأنه تحول إلى مسرح عبثي، عندما بدأ ترامب وزيلينسكي بمقاطعة بعضهما البعض، وترامب يتحدث بحدة ويقول لزيلينسكي “ليس لديك أي أوراق”، وزيلينسكي يرد “نحن لا نلعب بالورق”. ثم أمر ترامب بإلغاء المؤتمر الصحفي المشترك، وإلغاء مأدبة الغذاء، وطلب من الوفد الأوكراني مغادرة البيت الأبيض.
خلال ولايته الأولى، أعرب ترامب في أكثر من مناسبة عن استيائه من حلف “الناتو”، وكان يلمح إلى الانسحاب منه، وكان يمتنع عن الالتزام بالدفاع عن أي عضو في الحلف يتعرض إلى هجوم خارجي، وفقاً لقوانين الحلف. وساهمت مواقف ترامب المتحفظة، وحتى العدائية، لبعض أعضاء الحلف، وعلاقاته الجيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى توسيع الهوة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، حيث فرض الحلف حوالي 80 عاماً من السلم في القارة الأوروبية، إلى أن خرقه الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022.
ولكن علاقات ترامب وحكومته مع حلف “الناتو” استمرت في التدهور، حين كان ترامب يمتنع عن تنفيذ تحذيراته العلنية لبوتين، وكان يردد سردية بوتين لأسباب الحرب. وفي السنة الماضية، بدأ ترامب ونائبه فانس ببناء علاقات مباشرة مع القوى اليمينية التي تعارض الحكومات الأوروبية، أو تدعو للتقارب مع موسكو، في تدخل سافر في شؤونها الداخلية.
ومقابل الفتور أو التوتر الذي تمر فيه علاقات واشنطن مع دول الاتحاد الاوروبي (وكندا) في حقبة ترامب، نرى أن العلاقات بين دول أوتوقراطية مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا تزداد متانة، ويتمثل ذلك في مشاركة قوات من كوريا الشمالية في الحرب ضد أوكرانيا، والدعم العسكري، وخاصة الصواريخ والمسيرات التي توفرها إيران لروسيا لإستخدامها ضد الشعب الأوكراني، والمساعدات المختلفة التي تقدمها الصين إلى روسيا.
قبل أسبوعين أصدر البيت الأبيض ما يسمى بالاستراتيجية الأمنية الوطنية، وهي وثيقة تصدرها كل حكومة جديدة، تتضمن أهداف وما يقلق الإدارة الجديدة في العالم. وتمثل استراتيجية ترامب تحولاً جذرياً وخطيراً عن الأهداف الأميركية التقليدية تجاه حلفاء واشنطن التقليديين في أوروبا، حيث تتهم الحكومات الأوروبية بتجاهل إرادة شعوبها عندما تدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وتتحدث بإيجابية عن التعاون مع القوى اليمينية في المجتمعات الأوروبية التي تشاركها في عدائها للهجرة، وترفع من الأهمية الاستراتيجية لدول أميركا اللاتينية، في نسخة معدلة من “مبدأ مونرو”، الرئيس الأميركي الخامس الذي منع الدول الأوروبية من التدخل في شؤون دول نصف الكرة الغربي. كما تقلل الوثيقة من أهمية منطقة الشرق الأوسط التي أشارت الوثيقة أنها لم تعد مهمة كما كانت في السابق، بعد أن تنوعت مصادر النفط والغاز وخاصة في الولايات المتحدة التي تعتبر أكبر منتج للنفط والغاز في العالم.
ولكن أخطر ما في الوثيقة هو النقد اللاذع والمباشر الذي توجهه إدارة ترامب إلى مستقبل أوروبا القاتم، بسبب استمرار الهجرة، وفقاً للوثيقة التي تدعي أنه خلال عقود قليلة بعض دول حلف الناتو سوف تتحول إلى دول أكثريتها من غير الأوربيين، الأمر الذي يعني أن القارة ستواجه ما أسمته الوثيقة “المحو الحضاري”. المفارقة، هي أنه بعد عقدين من الزمن، سوف يصبح الأميركيين من أصول أوروبية، أكبر أقلية في البلاد. لغة ترامب التحريضية ضد كل مهاجر غير أبيض، وادعائه الفعلي أنه المدافع الأول عن الحضارة الغربية (وهو موقف يشاركه فيه الرئيس بوتين)، يهدد السلم الاهلي في البلاد، ويعمق الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.