الشرق الأوسط أمام مفترق طرق
دفعت حرب غزة المنطقة إلى مفترق طرق، تجميد مسارات التطبيع، اتساع رقعة المواجهات من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن، وتزايد عزلة إسرائيل مع تحولات في الرأي العام والتحالفات.

وضعت الحرب بين حركة حماس وإسرائيل، وهي الأطول والأكثر دموية في تاريخ الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، منطقة الشرق الأوسط بكاملها أمام مفترق طرق خطير، وغيرت من أولويات جميع دول المنطقة التي بدأت تبحث عن تحالفات إقليمية ودولية للتعويض عن هشاشة الضمانات الأميركية، وعمقت من مشاعر الكراهية بين إسرائيل وشرائح اجتماعية كبيرة في الدول الاقليمية، وجمدت من عملية “تطبيع” العلاقات بين إسرائيل ودول عربية جديدة، وأبرزها السعودية. ولكن السمة الأساسية التي ميزت هذه الحرب عن غيرها من الحروب والمعارك العربية-الإسرائيلية في السابق، هو نوعية العنف وشموليته والغياب الكامل للتفريق بين المدنيين والعسكريين والقصف العشوائي المقصود.
بعد سنتين من الحرب الضارية حولت خلالها إسرائيل قطاع غزة إلى أهرامات من الركام، وقتلت أكثر من 67 ألف فلسطيني، سرعان ما نقلت إسرائيل الحرب من غزة إلى الدول المجاورة، حيث ألحقت بها نكسات عسكرية هامة جعلتها، على الأقل في المستقبل المنظور، القوة العسكرية العظمى في الشرق الأوسط، والدولة الأكثر عزلة في المنطقة والعالم. ولولا الدعم الأميركي العسكري والسياسي، غير المشروط تقريباً، لما كانت إسرائيل قادرة على تحقيق هذه المكاسب. ولكن إسبرطة الجديدة، كما يحلو لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن يسمي إسرائيل، مثلها مثل إسبرطة اليونانية القديمة، سوف تجد أن انتصاراتها العسكرية التكتيكية لن توفر لها السلام والاستقرار والهدوء، أو تنهي شعورها بانعدام اليقين، أو تجعل جيرانها يقبلونها ككيان طبيعي.
ومع أن منظمات حقوق الإنسان العالمية، وحتى الإسرائيلية، وعدد كبير من المؤرخين والخبراء، يوافقون على أن الدمار والقتل العشوائي المنظم الذي ترتكبه إسرائيل في غزة يرقى إلى مستوى الإبادة، مع ما تسببت به هذه الممارسات المشينة من عزلة إسرائيل الدولية، إلا أن ردود الفعل الإقليمية والدولية بقيت في حيز الشجب والاستنكار، ولم تغير ولو بشكل ضئيل الوضع المأساوي في غزة. ومع أن خطة ترامب، بعد أن وافقت حماس وإسرائيل على تنفيذ المرحلة الأولى منها (الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين وبدء انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع) يمكن أن تؤدي إلى إنهاء الحرب، إلا أن الأفق لا يشمل سلاماً حقيقيا بين الفلسطينيين وإسرائيل.
العنف العشوائي والمتطرف والقتل الجماعي غير المسبوق منذ السابع من أكتوبر 2023، وخاصة تدمير إسرائيل لقطاع غزة واقتلاع أكثر من مليوني فلسطيني من منازلهم، والتسبب في مجاعة شوهت آلاف الأطفال او قتلتهم، وشرعنة الحديث العلني (الإسرائيلي والأميركي) عن تهجير الفلسطينيين، غيّر جذرياً من مسلمات وسياسات دول المنطقة. هذه الدول تبحث الآن عن تحالفات إقليمية أو دولية (الاتفاق بين السعودية وباكستان على سبيل المثال)، وتعاون عسكري يتخطى العلاقة العسكرية بواشنطن.
وسرعان ما تحولت الحرب في غزة إلى حرب إقليمية، وطالت لبنان واليمن وسوريا والعراق. وللمرة الأولى تحولت “حرب الظل” بين إسرائيل وإيران، إلى مواجهة عسكرية مباشرة في 2024 و2025. وعلى مدى 12 يوماً، شنت إسرائيل هجمات جوية ضد مرابض الصواريخ والمنشآت النووية في إيران، انتهت بمشاركة سلاح الجو الأميركي بقصف المفاعلات النووية التي بنتها إيران تحت الارض.
وشنت إسرائيل هجمات مكثفة ضد مقاتلي حزب الله في لبنان، بعد أن ساند الحزب حركة حماس عسكرياً، حيث دمرت إسرائيل العديد من قرى جنوب لبنان، وقتلت أكثر من 4 آلاف لبناني. في هذه الحرب استخدمت إسرائيل تفوقها العلمي والاستخباراتي، كما بدا من تفجيرها لآلاف أجهزة الاتصال الـ (Pagers) التي يستخدمها عناصر حزب الله في سبتمبر/أيلول 2024، ما أدى إلى قتل 42 عنصراً وجرح أكثر من 3000 آخر.
وأدى الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي لحركة حماس وحزب الله والأجهزة الإيرانية العسكرية والعلمية إلى اغتيال الصف الأول من قيادات حماس السياسية والعسكرية، ليس فقط في غزة، بل في لبنان وإيران (صالح العروري وإسماعيل هنية)، وقادة في الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وشخصيات عسكرية وعلماء في شؤون الطاقة النووية. وألحقت إسرائيل نكسة نوعية وكبيرة بحزب الله حين قتلت عدداً من قادته السياسيين والعسكرين بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله. وشنت إسرائيل هجمات جوية ضد القوات الحوثية في اليمن، التي هددت الملاحة في البحر الأحمر، وأطلقت الصواريخ ضد إسرائيل تضامناً مع حماس. واستغلت إسرائيل ضعف النظام الجديد في سوريا لتدمير ما تبقى من أسلحة الجيش السوري، وقامت بمئات الطلعات الجوية ضد التنظيمات المسلحة والموالية لإيران في سوريا والعراق. وفي انتهاك واضح لاتفاق فصل القوات الموقع في 1974 بين إسرائيل وسوريا، احتلت إسرائيل أراض سورية وراء المنطقة المنزوعة السلاح وفي جنوب سوريا.
وأدت النكسات التي ألحقتها إسرائيل بإيران و”محور المقاومة” الذي يدعمها، وانشغال روسيا بالحرب ضد أوكرانيا، وكذلك تورط حزب الله في القتال ضد إسرائيل، في إضعاف نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، ما أدى إلى سقوطه في نهاية السنة الماضية، حين تحركت قوات هيئة تحرير الشام من إدلب لتحتل أكبر مدينتين في سوريا: حلب ودمشق، وإرغام الأسد على الهروب إلى روسيا، وإنهاء حكم سلالة الأسد التي حكمت سوريا بالحديد والنار لحوالي 54 سنة.
وخلال قيام إسرائيل بتدمير البنية التحتية بكاملها في غزة وتجويع سكانه وحرمان الفلسطينيين من أبسط الخدمات الإنسانية، قام الجيش الإسرائيلي والمستوطنين اليهود بشن حملة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية أدت إلى مقتل 800 شخص، وخلال هذه السنة قامت إسرائيل باقتلاع 40 ألف فلسطيني من منازلهم في الضفة الغربية، في أكبر عملية نزوح منذ حرب 1967. في لبنان، أرغم القصف الإسرائيلي 1.3 مليون لبناني على مغادرة الجنوب، وخاصة بعد تدمير إسرائيل لعشرات الآلاف من المنازل والشقق، حيث قدّر البنك الدولي قيمة الخسائر والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية بأكثر من 3 مليارات دولار. في المقابل وصل عدد الإسرائيليين الذين غادروا منازلهم في شمال إسرائيل لتفادي صواريخ حزب الله إلى 60 ألف شخص.
وتبقى نوعية العنف العشوائي والشمولي وغير المسبوق السمة الأساسية لهذه الحرب، لأن الخسائر البشرية (أكثر من 70 بالمئة من الضحايا الفلسطينيين كانوا من النساء والأطفال) ومدى الدمار المادي يفوق جميع الحروب والمواجهات المسلحة بين إسرائيل والفلسطينيين، بما في ذلك المواجهات السابقة بين إسرائيل وحماس، والتي أدت إلى قتل 6 آلاف شخص. وهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الحصار والتجويع، وانتشار الأمراض بين سكان غزة، ما سوف يؤدي إلى زيادة عدد الضحايا.
كانت حرب أكتوبر/تشرين في 1973 آخر حرب نظامية بين إسرائيل والدول العربية. منذ ذلك الوقت، وإسرائيل تحارب قوى عربية غير نظامية، مثل منظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً حركة حماس، وحزب الله في لبنان، والميليشيات الحوثية في اليمن. قرار الدول العربية عدم التصدي لإسرائيل حتى بعد أن حولت غزة إلى أرض يباب، يؤكد مرة أخرى أن ما كان يسمى الصراع العربي-الإسرائيلي القديم، لم يعد موجوداً على المستوى الرسمي. الحكومات العربية إما هادنت إسرائيل فعلياً او ضمناً حين وضعت مصالحها الذاتية قبل “التضامن العربي” السابق. ولكن العنف الإسرائيلي العشوائي، واستمرار قتل الفلسطينيين لأكثر من سنتين وتدمير القطاع، والتصرف بعنجهية ضد الدول الاقليمية، قد عزز من تضامن الشعوب العربية (والرأي العام في الدول الغربية) مع معاناة وتطلعات الشعب الفلسطيني، ما أرغم الدول العربية على مطالبة الرئيس ترامب بالتدخل للجم نتنياهو. وللمرة الأولى، قامت دول حليفة تاريخياً لإسرائيل، مثل المملكة المتحدة وفرنسا وكندا وأستراليا، بتحدي واشنطن والاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية.
عزلة إسرائيل في العالم، تقابلها عزلة غير مسبوقة في الولايات المتحدة. وتؤكد استطلاعات الرأي المختلفة انحسار التأييد لإسرائيل في المجتمع الاميركي، وخاصة بين الشباب والمثقفين وخاصة في الحزب الديموقراطي. وجاء في استطلاع لصحيفة واشنطن بوست، أن 61 بالمئة من اليهود الأميركيين يقولون إن إسرائيل تمارس جرائم حرب في غزة، و40 بالمئة منهم يعتقدون أن إسرائيل ترتكب حرب إبادة ضد الفلسطينيين. وللمرة الأولى أيد 35 بالمئة الفلسطينيين مقابل 34 بالمئة إسرائيل. وطالب حوالي 60 بالمئة إسرائيل بإنهاء الحرب ضد غزة، حتى إذا لم يتم الإفراج عن الرهائن أو القضاء على حركة حماس. ويعارض حوالي سبعين بالمئة من الناخبين الشباب تزويد إسرائيل بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية. وللمرة الأولى، صوتت أكثرية الأعضاء الديموقراطيين في مجلس الشيوخ على وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة. هذه الاتجاهات الرافضة للعنف الإسرائيلي العشوائي في أوساط الرأي العام، وحتى في الكونغرس، يمكن أن تؤدي مع مرور الزمن إلى سياسة أميركية أكثر إنصافاً، وأكثر عدلاً في الشرق الأوسط.
الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.