"*" indicates required fields

اشترك

This field is for validation purposes and should be left unchanged.

عند الاشتراك، فإنك توافق على سياسة الخصوصية المعتمدة لدينا.

Subscription Settings
التحليلات

الرئيس ترامب، الحاكم بأمره

نجح ترامب في ترك بصماته على جميع أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، ويتساءل الكثيرون ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قادرة في المستقبل على إصلاح أضراره، إنقاذ ما تبقى من قيم وممارسات الديموقراطية الأميركية.

هشام ملحم

8 دقائق قراءة

الرئيس دونالد ترامب خلال يتحدّث اجتماع لأعضاء إدارته في البيت الأبيض، 26 أغسطس 2025. (صورة من أسوشييتد برس/مارك شيفِلباين)

يوم الثلاثاء الماضي، وعلى مدى أكثر من ثلاث ساعات، جلس الرئيس دونالد ترامب مبتسماً، ومحاطاً بوزرائه، وهو يستمع إليهم يتنافسون فيما بينهم على كيل المديح المبالغ به، والثناء المتزلف لقيادته التاريخية، ولإنقاذه البلاد من كارثة حتمية. هذا الاطراء السخي دفع ترامب للقول في سياق تأكيد سلطته في إرسال القوات الفيدرالية إلى شوارع المدن الأميركية، “أملك الصلاحيات للقيام بأي شيء أريده، أنا رئيس الولايات المتحدة “.

مع مرور كل يوم، تتراكم الأدلة على أن الولايات المتحدة تبتعد ببطء، ولكن بثبات، عن أرثها كديموقراطية ليبرالية، باتجاه التحول إلى دولة مركزية يحكمها رئيس مستبد واعتباطي، يستخدم أجهزة الدولة لمعاقبة خصومه والانتقام منهم، والعمل بشكل منظم على تفريغ مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني من محتواها الديموقراطي، مع الحفاظ على غطاء ديموقراطي هش.

في استطلاع للرأي شمل 500 عالم سياسي، قالت أكثريتهم الساحقة إن الولايات المتحدة تتحول بسرعة من الديموقراطية الليبرالية باتجاه شكل من أشكال الحكم الاستبدادي. ويقّيم الأكاديميون الأميركيون في الاستطلاع، المعروف باسم [Bright Line Watch]، الالتزام بالديموقراطية الأميركية على مقياس يبدأ من الصفر (ديكتاتورية مطلقة) إلى مئة (ديموقراطية مطلقة). بعد انتخاب الرئيس ترامب لولاية ثانية أعطى الأكاديميون الديموقراطية الأميركية نسبة 67 بالمئة. ولكن بعد مرور أسابيع انحدرت هذه النسبة إلى 55 بالمئة. وقال أحد المسؤولين عن الاستطلاع، “هناك اجماع مؤكد بأننا نسير في الاتجاه الخاطئ.”

في سنة 2002، نشر الباحثان في العلوم السياسية ستيفن ليفيتسكي (Steven Levitsky) ولوكان واي (Lucan Way) مقالا بعنوان “صعود الاستبداد التنافسي“. هذا المفهوم يصف الأنظمة السياسية الهجينة التي تمزج بعض العناصر الديموقراطية، مثل الانتخابات والمؤسسات، مع الممارسات الاستبدادية والسلطوية المنظمة، التي تعطي الحاكم صلاحيات شبه مطلقة وغير عادلة. هذه الأنظمة تنظم الانتخابات التي تتنافس فيها الأحزاب المختلفة، ولكن الأرضية السياسية تكون لصالح الحزب الحاكم الذي يستخدم الترهيب ضد الناخبين، والتغطية الصحفية غير المنصفة، والضغط على المعارضة، واستغلال مؤسسات الدولة لصالح الحاكم وحزبه.

تقوم هذه الأنظمة الهجينة بالسيطرة على النظام القضائي، إما من خلال توظيف قضاة موالين، أو من خلال استخدام الترهيب أو الترغيب، والاستقطاب المشترك، واستخدام القضاء كسلاح ضد المعارضة. في الظاهر، تتعايش هذه الأنظمة في البداية مع وسائل الإعلام، قبل فرض الضغوط المختلفة عليها، التي تشمل الضغوط القضائية، أو التلاعب في إعطاء وسائل الإعلام الترخيص القانوني، وطبعاً، حرمان وسائل الاعلام التي ترفض املاءات الحاكم من الدعايات الحكومية، أو من غيرها من المؤسسات التي تتعرض لضغوط الحكومة. في هذه الأنظمة يواجه أي صحفي أو محلل مستقل أو ناقد للحاكم أو حزبه، خطر الترهيب أو الاعتداء الجسدي من قبل مجهولين، أو الدعاوى القضائية التي تمثل الأسلوب المفضل المتوفر لدى هذه الأنظمة.

تختلف سمات التفرد بالسلطة في القرن الحادي والعشرين جذرياً عن الممارسات التعسفية والاستبدادية السافرة التي رأيناها في القرن العشرين. في القرن العشرين عاشت دول عديدة في ظل الايديولوجيات الشمولية، والحزب الواحد، أو الطاغية العسكري. هذه الأنظمة كانت مبنية على عبادة الفرد، وممارسة العنف ضد المعارضة، والتفرد في السيطرة على مؤسسات الدولة من خلال وضع الموالين للنظام في المناصب الحساسة، وفرض السيطرة على النظام القضائي، ووسائل الإعلام والجامعات، وتنظيم انتخابات مشوهة يفوز فيها الحاكم أو حزبه بنسب خيالية.

المستبدون في القرن الحادي والعشرين، يتمسكون “بالحداثة”، ويدركون أهمية الصورة الاعلامية النظيفة، ويتجنبون العنف المباشر، ويتحدثون بلغة الديموقراطية والتسامح والتنوع. حتى العسكريين بينهم، يتخلون عن بذاتهم، ويرتدون البدلات وربطات العنق الثمينة، ويسيطرون على الرأي العام من خلال استغلال وسائل الإعلام، أو السيطرة عليها من خلال السماح لأقطاب النظام بشرائها، أو إدارتها للتأثير على اتجاهات الرأي العام.

أهم سمات هذه الأنظمة الهجينة، هي أن الحاكم أو حزبه يصلون إلى السلطة في انتخابات شرعية، وليس في انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة. بعد وصولهم إلى السلطة، تبدأ عملية منظمة لسيطرة الحاكم وحزبه على مؤسسات الدولة، والضغط على المعارضة السياسية، وتقييد حرية وسائل الاعلام، وتوظيف القضاة الموالين للحاكم الجديد، والتأثير المباشر على الجامعات.

أبرز من يمثل هذه الأنظمة الهجينة في العالم هي تركيا وهنغاريا. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والهنغاري فيكتور أوربان وصلا إلى السلطة عبر انتخابات شرعية. وتمت إعادة انتخابهم لأكثر من مرة، لأنهما اعتمدا بشكل كامل مفهوم “الاستبداد التنافسي”.

للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، يقوم رئيس أميركي بالتصرف وكأنه الحاكم بأمره. الرئيس ترامب خلال الأشهر الثمانية الماضية يمارس الحكم بتفرد، ودون أي اعتبار للأعراف، ودون أي احترام للفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كما يقضي الدستور. ويسيطر ترامب سيطرة شبه مطلقة على الحزب الجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ، ما يعني تجريد الكونغرس من أي دور دستوري لموازنة الرئيس، أو حتى محاولة التأثير على قراراته. وفي هذا السياق، طلب ترامب من حاكم ولاية تكساس غريغ أبوت إعادة رسم الخريطة الانتخابية في الولاية لضمان حصول الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية المقبلة على 5 أصوات إضافية، لزيادة الأكثرية الجمهورية الضئيلة في مجلس النواب.

وبعكس ولايته الأولى، وضع ترامب أنصاره والموالين له في جميع المناصب الحساسة في الوزارات، وغيرها من أجهزة الخدمة المدنية، بما في ذلك المراكز الهامة في وزارة العدل وأجهزة الاستخبارات ومكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي). وفور وصوله إلى البيت الأبيض، بدأ ترامب بمهاجمة وسائل الإعلام، عبر التلويح بإقامة الدعاوى ضدها، وحصل على مكافآت مادية من بعضها، مثل شبكة التلفزيون أي بي سي، في تسويات خارج المحاكم.

وفي هذا السياق، يستخدم ترامب “هيئة الاتصالات الفيدرالية” للتحقيق مع جميع قنوات التلفزيون (باستثناء شبكة فوكس الموالية له) لترهيبها. هذه الهيئة مثلا تحقق في كيفية قيام شبكة سي بي إس بتحرير مقابلة أجرتها في 2024 مع منافسته كامالا هاريس، وما إذا كانت شبكات أخرى تلتزم بالشروط والقيود المالية. وتملك هذه الهيئة صلاحية إلغاء الرخص المحلية للبث، الأمر الذي يؤثر مباشرة على ميزانيات شبكات التلفزيون.

وشنّ ترامب حملة انتقامية على كبريات الجامعات الأميركية، وحرم بعضها، مثل جامعات هارفارد وكولومبيا وبرينستون من مليارات الدولارات من المنح الحكومية، التي تقدم عادة للجامعات الكبيرة لإجراء الأبحاث العلمية والطبية، بحجة أنها لا تتصدى بما فيه الكفاية للعداء للسامية، ولكن السبب الحقيقي هو أن هذه الجامعات ليبرالية أو “يسارية” برأي ترامب ومساعديه. وكان رئيس وزراء هنغاريا فكتور أوربان قد استهدف الجامعات الهنغارية التي انتقدته، وقطع ميزانيتها بنسبة 40 بالمئة.

واستهدف ترامب مكاتب المحاماة الكبيرة في واشنطن، لأن بعضها يمثل أعدائه، ومنع المحامين العاملين في هذه المكاتب من دخول المباني الحكومية، أو التعاون مع المتعاقدين مع الحكومة، ما يعني حرمانهم من القيام بمهامهم. وأرغم ترامب بعض هذه المكاتب الكبيرة على الخضوع لمشيئته، وتقديم خدمات قانونية مجانية له ولأنصاره.

في ولايته الثانية، لم يتورع الرئيس ترامب عن مهاجمة النظام القضائي الأميركي، المعروف تقليدياً باستقلاليته. ويهدد ترامب والعديد من مساعديه برفضهم لبعض القرارات القضائية، ولا يتردد ترامب في مهاجمة القضاة بشكل شخصي، واتهامهم بالجنوح إلى اليسار، مع العلم أن المحكمة العليا بأكثريتها المحافظة أكدت صلاحياته، ولم ترفض حتى الآن أي من قراراته الفردية.

ويستخدم ترامب بشكل سافر الأجهزة الحكومية، وخاصة وزارة العدل، لترهيب خصومه، كما يتبين من الغارة التي قامت بها عناصر أمنية قبل أيام ضد منزل مستشار ترامب للأمن القومي في ولايته الأولى جون بولتون، بحجة استيلائه على وثائق حكومية سرية. ولكن السبب الحقيقي للغارة هو رغبة ترامب بإخراس بولتون الذي ينتقده علناً. ويرفض ترامب التعامل مع الأجهزة الحكومية التي تتمتع باستقلالية كبيرة مثل المصرف المركزي، حيث يوجه ترامب الإهانات الشخصية السافرة ضد حاكم المصرف المركزي جي بأول، وهدد بطرده لأن باول يرفض تخفيض نسبة الفائدة كما يرغب ترامب.

وقامت مديرة الاستخبارات الوطنية، تالسي غابرد، طبعاً بطلب من الرئيس ترامب، بإلغاء التصريحات الأمنية لسبعة وثلاثين مسؤولاً أمنياً سابقين، في إجراء عقابي ضد المسؤولين الأمنيين السابقين، الذين عملوا في إدارة الرئيس بايدن. وهذا الإجراء يمنع المسؤولين الأمنيين السابقين من الوصول إلى الوثائق الحكومية أو السرية. كما ألغى ترامب التصريحات الأمنية للرئيس السابق بايدن، ونائبته كامالا هاريس.

ويوم الجمعة السابق، قام وزير الدفاع بيتر هيغسيت بطرد الجنرال جيفري كروز مدير وكالة استخبارات وزارة الدفاع من منصبه لأن جهازه خرج بتقويم للغارة الجوية الأميركية ضد المفاعلات النووية الإيرانية يقول أن الهجمات أخرت البرنامج النووي الايراني لبضعة أشهر فقط. ويناقض هذا التقويم تأكيد الرئيس ترامب أن الغارة دمرت المنشآت النووية الإيرانية بالكامل. وكان الوزير هيغسيت قد طرد 15 ضابطاً بارزاً في الوزارة، بمن فيهم رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة.

وفي الأسابيع الماضية بدأ ترامب بحملة ضد مؤسسة متاحف سميسونيان، التي تؤرخ معظم أوجه الحياة الأميركية الثقافية والتاريخية، لأن هذه المتاحف برأيه تتطرق إلى أشياء سلبية في التاريخ الأميركي، وتحديداً التاريخ المخزي والدموي لمؤسسة العبودية في الولايات المتحدة.

ويسعى ترامب إلى ” عسكرة” حكمه للبلاد، حيث قام في الأسابيع الماضية بنشر قوات الحرس الوطني، وعناصر تابعة لوكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك”، الذي ضاعف ميزانيته، وأوصلها إلى حوالي 30 مليار دولار، في شوارع العاصمة واشنطن، وقبلها في مدينة لوس انجلوس بحجة إعادة الأمن والنظام إلى هذه المدن. ويستخدم ترامب هذا الجهاز، وكأنه ذراعه الأمنية.

عناصر هذا الجهاز يغطون أوجههم بالأقنعة، ولا يعرفّون أنفسهم، ويقومون بالغارات الدورية في المطاعم والمصانع، وغيرها بحثاً عن مهاجرين غير موثقين يلقون القبض عليهم تمهيداً لطردهم خارج البلاد. وفي الأسابيع الماضية تم نشر آلاف العناصر من الحرس الوطني ووكالة “إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك” في شوارع العاصمة واشنطن مع آلياتهم الثقيلة، حيث بدت المدينة كما يقول العديد من سكانها وكأنها تحت احتلال عسكري. ويسعى ترامب إلى توسيع رقعة عمليات هذه القوات الفيدرالية في مدن أخرى، مثل شيكاغو وبالتيمور، وهي مدن تقع في ولايات ديموقراطية أو يحكمها رؤساء بلدية ينتمون إلى الحزب الديموقراطي.

حتى الآن، نجح ترامب في ترك بصماته على جميع أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، ويتساءل الكثيرون ما إذا كانت الولايات المتحدة ستكون قادرة في المستقبل على إصلاح أضراره، وإنقاذ ما تبقى من قيم وممارسات الديموقراطية الأميركية.

الآراء الواردة في هذا المحتوى تعبّر عن وجهات نظر الكاتب/ة أو المتحدث/ة، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية أو موظفيه أو مجلس إدارته.

هشام ملحم

باحث غير مقيم

التحليلات

الشرق الأوسط أمام مفترق طرق

دفعت حرب غزة المنطقة إلى مفترق طرق، تجميد مسارات التطبيع، اتساع رقعة المواجهات من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن، وتزايد عزلة إسرائيل مع تحولات في الرأي العام والتحالفات.

هشام ملحم

6 دقائق قراءة

عن فلسطين وإسرائيل وإسبرطة

اعترافات أوروبية بالدولة الفلسطينية، وزيادة المطالبة بمساءلة إسرائيل دوليا، في حين يسعى نتانياهو إلى مزيد من العسكرة، فهل يقود ذلك إلى عزلة أعمق لإسرائيل على المستوى الدولي؟

هشام ملحم

8 دقائق قراءة

العنف الإسرائيلي يزور دولة عربية أخرى

هجوم إسرائيل على الدوحة يهزّ معادلة الأمن الخليجي ويحرج واشنطن، فيما قطر جهودها للوساطة في إنهاء الحرب في قطاع غزة.

هشام ملحم

4 دقائق قراءة

حرب إبادة في غزة

في غزة، هناك حرب إبادة تشنها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، ومع انها حرب ابادة جماعية، إلا أن كل فلسطيني يموت بمفرده، وهو يراقب العالم يراقب مأساته بصمت وعجز، وإن تمتم بين وقت وآخر "أبداً مرة اخرى" دون أن يعنيها.

هشام ملحم

7 دقائق قراءة

عرض الكل